كان البروفيسور أحمد محمد الحسن بروفيسورا حقيقيا وعالما حقيقيا في زمن قلّ فيه العلماء في السودان بل وربما في العالم بأسره . ففي الوقت الذي غلب فيه تسليع العلم باللهاث خلف عدد الأوراق ورفع مقدار الاستشهادات كيفما اتفق ، وفي الوقت الذي صارت فيه الأبحاث في العالم النامي تتجه حسب اتجاهات الجهات المانحة بتمويل الأبحاث ذات العائد المادي في نهاية الأمر ، كان البروفيسور أحمد نسيج وحده في تطويع البحث والعلم لخدمة انسان السودان .
ولد البروفيسور أحمد في مدينة بربر شمال السودان في بدايات الثلاثينات من القرن المنصرم ، ذكر لي غير مرة – وكتب ذلك في كتابه " كتاب حياتي " الذي سيصدر بالانجليزية عما قريب - ، ذكر لي أنه دخل المدرسة بمحض المصادفة أو بالحظ ، إذ أنهم في ذلك الزمان ولمحدودية المدارس ومقاعدها فقد كان يتم اختيار الطلاب بالقرعة ، كان للسودان في ذلك الزمان الكثير من الحظ كما يبدو بالمقارنة مع النحس الذي صار يلازم البلاد بعدها !
من بربر إلى وادي سيدنا في أمدرمان ثم إلى كلية كتشنر الطبية وبعدها إلى انجلترا امتدت رحلة العلم والتعلم . يالها من سنوات يا بروفيسور ، زامل فيها في وادي سيدنا الطيب صالح حكّاء السودان الكبير وابنه البار ، وزامل كذلك الصلحي ، ابراهيم ، الفنان التشكيلي العالمي المحب لبلاد السودان والبار بها كذلك ، حبا أورثه حزن مقيم كما أورث زميليه الحسن والطيب صالح . كان هناك في المدرسة كذلك كما ذكر لي البروفيسور مرة ، منصور خالد . لقد كان السودان وطن النجوم وقتها ولكن كل ذلك انتهى ! عوضنا الله في السودان ، كان يقول لي ولكن ذلك لم يكن ليدفعه لليأس بل لمزيد من العمل والاجتهاد .
يذكر الناس في مجال الرثاء أعمال من يرثون ، ذلك باب لا تحيط به الكلمات في حق البروفيسور أحمد ، فالمئات من الأوراق العلمية الرصينة تتوفر الآن مبذولة في فضاء الانترنت وفي أوراق المجلات في المكتبات . وكتابه الموسوم اللشمانيا في السودان يظل مرجعا لا غنى عنه للعاملين في المجال في السودان وفي العالم . ولكني سأذكر هنا جانبا من أعماله غير المنشورة بل غير المعروفة ، أقول بعضها ، فالكثير منها مما لا تحيط به الكتابة ، والأكثر منها مما لا يعرفه الناس أو لم يشهدوه . في قرية أم كراع التي حولت الحكومة اسمها إلى أم الخير في ضواحي القضارف في تسعينات وبدايات الألفية، كان الناس هناك يعرفون طبيبا اسمه دكتور أبروف يصفونه بالساحر ! وغني عن القول بالطبع ان اسم أبروف هو تحوير الأهالي للقب البروف ! السيدة التي عالجها من مرض الجذام في ضواحي أم كراع حيث كانت تعيش منعزلة عن الناس دعته لبيتها في العام القادم عند حضوره وهو ما قد كان . طلبت مني تصويرها هي وزوجها الذي تزوجها بعد شفائها من الجذام قال لي ، وقد فَعلْتُ . والصورة بالطبع موجودة ضمن مقتنيات البروفيسور . أما الرجل النحيف صاحب الكنتين الصغير في القرية والذي عولج من الكلازار الذي كان قد أنهكه ، فقد انتظر مرور عربة البروفيسور بعد عام أو عامين ربما ، ليضع في صندوقها عبوات الزيت الكبيرة كتعبير عن امتنانه . وعلى ذكر التصوير فقد كان من هوايات البروفيسور أن يحمل كاميرته ويخرج للتصوير في صباحات الخرطوم وفي زياراته لبربر وفي سفراته خارج البلاد . في بربر صوّر احتفالات الأعراس والختان وحياة الناس العاديين وبيوت عائلته وأقاربه من ناس أبو سبعة الذين كان منزلهم من المنازل التاريخية في بربر ، ذلك بالطبع غير صور الآثار في تلك المناطق . بعض الصور للطبيعة الحية أو الصامتة كان البروفيسور يحولها للوحات تجريدية باستخدام برامج الفوتشوب ومثيلاتها . إلى مستشفى الجلدية بالخرطوم ذهبت معه مرة لزيارة الطفلة التي كان قد أنهك جسدها النحيل طفيل اللشمانيا الجلدية ، ولكن البروفيسور في هذه المرة كان قد أحضر لوالدتها ثوبا جديدا اشتراه لها ، لاحظت إنها كل مرة بتجي بنفس التوب القديم وحالتهم تعبانة قال لي . وعلى ذكر اللشمانيا فقد أثار اعجابي وقتها في بدايات عملي بأبحاث اللشمانيا وصفه للبروفيسور محمد حمد ساتي بالرجل اللشماني أو رجل اللشمانيا العظيم ، إذ أعد البروفيسور أحمد في العام 2001 تكريما للبروفيسور ساتي في معهد الأمراض المتوطنة ، كان من ضمن الاحتفال أن أحضرنا تورتة من فندق المريديان ( والذي تحول اسمه الآن إلى فندق ريجنسي ) الكائن عند تقاطع شارع القصر مع شارع السيد عبد الرحمن ، تورتة طلب البروفيسور أن يُكتب عليها : To a great Leishmanic ، وقد كان ! كان من الشائع أن نذهب لزيارة المرضى ومتابعتهم في مستشفى الجلدية وفي مستشفى الأذن والأنف والحنجرة ومستشفى الأسنان ومستشفى الخرطوم أو حيثما كانوا ، وفي الحقيقة فإن هؤلاء المرضى لم يكونوا من مرضى البروفيسور بالأصالة ، إذ كانوا يحولون في الغالب لغرض التشخيص فقط ، وبالطبع لم يكن البروفيسور يتقاضى مقابلا ماديا لذلك ، بل في الحقيقة فقد كان كثيرا ما يدفع ثمن العلاجات . مثل ذلك كان يفعله صديقه الراحل البروفيسور الهادي أحمد الشيخ طبيب العيون المعروف ، بل إن البروفيسور أحمد ذكر لي إن الهادي كان يستضيف المرضى الذين تتقطع بهم السبل في منزله الخاص ! ربما لذلك أو لشيء من ذلك رفقة اشياء أخرى بالطبع ، توثقت صداقتهما . والهادي بالمناسبة هو أخو الشهيد الشفيع أحمد الشيخ الذي أعدمه النميري في واحدة من تجلياته ! ينحدر الهادي من شندي وهي بالطبع تشابه في بيئتها وفي ثقافة الناس بيئة بربر وثقافتها .
كان من طبع البروفيسور وعادته أن يحتفي بنجاحات الناس الذين يعملون معه وانجازاتهم الصغيرة ، وكان ذلك بالطبع يمنحها زخما ومكانة ، أذكر أنني في أول سفراتي العلمية إلى تونس في العام 2002 ضمن برنامج التحضير للدكتوراة أن أعد لي البروفيسور حفل وداع صغير في معهد الأمراض المتوطنة ، كان ذلك شرفا كبيرا لي بالطبع ولا أزال للآن أحتفظ بالكرافتة أو ربطة العنق التي أهدانيها البروفيسور ، كانت تلك ربطة العنق الأولى لي وقام البروفيسور بنفسه بربطها لي ربطة لا تزال على حالها لسببين وقتها : أنها كانت ربطة العنق الأولى لي كما ذكرت ، والسبب الثاني أنني وحتى الآن لا أعرف كيف تربط الكرافتات ! بعدها بسنوات وفي العام 2005 أعد البروفيسور في منزله حفل وداع صغير للدكتور الشاب الصغير وقتها علي عون ، كان علي عون قد تعرف إلى البروفيسور بسبب عينة أحضرها من جنوب السودان وقتها قبل انفصاله واضعا لها تشخيصا نادرا ولكن صدق توقعه ، قال لي البروفيسور وقتها إن هذا الشاب سيكون ذا شأن في عالم الطب . استمرت علاقة علي عون معنا حتى سفره بعدها للخليج ثم هو الآن في واحدة من أكبر المستشفيات الأمريكية . في أكتوبر من العام 2019 وبعد تعييني مديرا لجامعة الزعيم الأزهري من قبل الدكتور عبد الله حمدوك اتصل بي البروفيسور للتهنئة وكان سعيدا للغاية عارضا تقديم ما يمكنه من المساعدة إن احتجت لها . في الحقيقة فقد كانت المساعدة بل الدرس الأعظم من العمل مع البروفيسور أحمد هي التعالي على الصغائر والترفع عن المناصب ، فالرجل الذي كان أول وزير للتعليم العالي في السودان وواضع لبناته ، لم تعن له الوزارة غير وظيفة مؤقتة عاد بعدها لهواياته . بعد إقالتنا بعيد انقلاب 25 أكتوبر ذهبت إليه واستعدنا هواياتنا كما كانت .
لم أر في حياتي شخصا متواضعا وغير مبال بعرض الدنيا من الأكاديميين ممن تولوا المناصب العليا في السودان مثل ما رأيته في البروفيسور أحمد . كان شخصا نادرا على طريقته إن استعرنا وصف الطيب صالح لصديقه منسي ، وشخصا عاديا إن استعرنا نظرته لنفسه . أذكر مرة أنه كان سعيدا جدا بصبغة شريحة مجهرية بحث عنها طويلا ، طفق يعدد لي روعة العمل وما يمكننا فعله بعدها ، ثم أنه استدرك بعدها : ياخي نحن ناس very simple ! ولك أن تترجمها بسطاء للغاية وأن طلباتنا في الحياة قليلة للغاية ! بالمقابل كان يرى أن واحدة من مشاكل السودان هي تمدد بسطاء العقول والتفكير وتسيدهم للمشهد ، the simple minded ، كان يسميهم أو يصفهم ، وبالطبع لا يحتاج المرء لكثير تأمل أو بحث في فضاء العمل العام بل وفي المجتمع في السودان لتبيان ذلك ! واحدة من تلك المواقف كانت قبل عدة سنوات وكنت برفقته حيث مررنا بأحد الباعة الجائلين وهو يعرض للبيع ساعة حائط كبيرة دائرية الشكل موضوعة في منتصف قطعة خشبية على شكل الشرافة . محاطاً بها عدد 99 من الشرافات الصغيرة في اشارة إلى عدد أسماء الله الحسني في غالب المصادر الاسلامية وفي كل واحدة من الشرافات الصغيرة كتب واحد من اسماء الله الحسنى . كان الشكل العام أقرب إلى القبح منه إلى الجمال رغم اجتهاد الصانع . المهم ، سألني البروفيسر أحمد وقتها عن ما يبيع هذا الرجل . ساعة حائط قلت له . أيوه شايف لكن معقول زول يشتري الحاجة القبيحة دي ؟ قال لي . أكدت له أن الكثيرين سيشترونها ، ربما لا لاعجابهم بها وربما لا لحوجتهم للساعة وانما أقله لأنها مزينة بأسماء الله الحسنى ! أيوه . The simple minded . قال لي بالانجليزية ثم أردف بالعربية : وما أكترهم في البلد دي .
غير التصوير كانت للبروفيسور اهتماماته في الموسيقى وعزف العود والصفارة . وكان من اهتماماته التي كرّس لها وقتا كتاباته عن الموسيقى والموسيقيين العرب المتقدمين من أمثال اسحق الموصلي ، ابراهيم بن المهدي ، علية بنت المهدي وعريب المامونية وغيرهم من الذين خصص لهم البروفيسور مقالات ضافية في كتابه " كتابات في الطب والموسيقى والأدب " الذي أصدره في العام 2017 عن دار مدارك بالخرطوم . ومن ضمن محاضراته اللطيفة كانت محاضرته عن أمراض الموسيقيين وبعض المشاهير ، أمراض توصل البروفيسور إلى تشخيصها من وصف بعضهم لها بالشعر أو من علاماتها التي تظهر في اللوحات التي رسمها فنانو عصر النهضة وقتها .
وفي الحقيقة فقد كان البروفيسور أحمد إضافة إلى تميزه العلمي والأكاديمي مثقفا من طراز فريد ، محبا للتصوير والموسيقى وقارئا نهما للكتب الانجليزية ومن ذلك كتاباته وتحليلاته لسلسلة هاري بوتر وقارئا نهما كذلك لأمهات الكتب العربية ، رالطا كل ذلك بأحوال السودان والسودانيين ومثال ذلك مقالته عن الإنداية وبيوت القيان وكذلك صور سودانية في كتابات الجاحظ وغير ذلك وغيره . كان لمّاحا ومتبصرا وقارئا لما وراء العاديات ، وطريفا وساخرا على طريقته .
لا تستطيع الكتابة المتعجلة أن تحيط بعوالم البروفيسور أحمد محمد الحسن ، وهذه الكتابة على كل حال لا تبدو كتابة في الرثاء ولا هي تتوسل ذلك ، ربما كانت كتابة أقرب إلى الاحتفاء بالرجل العظيم منها إلى الرثاء ، وربما كان من سوء حظ هذه الكتابة أن البروفيسور لن يقرأها ولن يصوبها أو يعلق عليها ـ إنما في مثل ذلك ربما قال شوقي بزيع في مقام غير هذا المقام : لا مرثاة لائقة بعجزك عن قراءتها . أحل : لا مرثاة لائقة بعجزك عن قراءتها يا بروفيسور ! وعطفا على ما ذكره لي مرة عن البروفيسور الراحل العظيم عبد الله الطيب بأن عبد الله الطيب لو كان في بلد غير السودان لكان له شأن عظيم ، فالبروفيسور أحمد لو كان في بلد غير السودان لكان له شأن عظيم ! بالطبع يعرفه طلابه وزملاؤه وعارفي فضله ولكن ذلك لا يلغي حقيقة أننا في بلاد لا يعرف فيها الناس قدر علمائهم ، وذلك في الحقيقة بعض ما تردى إليه حال السودان وصار بعض أسباب ترديه.
عملت مع البروفيسور لسنوات طويلة في مختبره الخاص ، وإن كان البسطاء من أهل القرى قد رأوا فيه ما يشبه الساحر ، ففي الحقيقة إن جاز لي وصف البروفيسور بكلمة واحدة في مجال الطب التشخيصي والأبحاث فهي أنه مُلْهَم ! أختم هنا بترجمة فيها بعض التصرف لما كتبه البروفيسور أحمد محمد الحسن في واحدة من مقالاته العلمية : " بالنسبة للبعض منا ممن هم في نهايات مسارهم المهني ، فإنه مما يفطر القلب رؤية ما انتهت إليه الأمة . أعتقد أن علينا مواصلة بذل جهدنا ما استطعنا ، إذ طالما هناك أمل فهناك طريقة " !
بروفسير الوليد محمد الامين